سورة القدر
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الآية رقم (1 : 5)
{ إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر . ليلة القدر خير من ألف شهر . تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر . سلام هي حتى مطلع الفجر }
يخبر تعالى أنه أنزل القرآن {ليلة القدر} وهي الليلة المباركة التي قال اللّه عزَّ وجلَّ: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} وهي من شهر رمضان، كما قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}، قال ابن عباس: أنزل اللّه القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال تعالى معظماً لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن الكريم فيها، فقال: {وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر}. روى ابن أبي حاتم، عن مجاهد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل ألف شهر، قال: فعجب المسلمون من ذلك قال: فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ: {إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر} التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل اللّه ألف شهر "أخرجه ابن أبي حاتم"، وروى ابن جرير، عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدّو بالنهار حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر، فأنزل اللّه هذه الآية {ليلة القدر خير من ألف شهر} قيام تلك الليلة، خير من عمل ذلك الرجل "أخرجه ابن جرير عن مجاهد موقوفاً". وقال سفيان الثوري: بلغني عن مجاهد ليلة القدر خير من ألف شهر قال: عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر، وعن مجاهد: ليلة القدر خير من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر، وقال عمرو بن قيس: عملٌ فيها خير من ألف شهر، وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير، والصواب، كقوله صلى اللّه عليه وسلم: (رباط ليلة في سبيل اللّه خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل) "أخرجه أحمد". وفي الحديث الصحيح في فضائل رمضان قال عليه السلام: (فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم) "أخرجه أحمد والنسائي"ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) "أخرجه الشيخان". وقوله تعالى: {تنزّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر،
ويضعون أجنحتهم لطالب العلم تعظيماً له، وأما الروح فقيل: المراد به ههنا جبريل عليه السلام، فيكون من باب عطف الخاص على العام، وقيل: هم ضرب من الملائكة كما تقدم في سورة النبأ، واللّه أعلم. وقوله تعالى: {من كل أمر} قال مجاهد: سلام هي من كل أمر، وقال سعيد بن منصور عن مجاهد في قوله: {سلام هي} قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً، أو يعمل فيها أذى، وقال قتادة: تقضى فيها الأمور، وتقدر الآجال والأرزاق، كما قال تعالى: {فيها يفرق كل أمر حكيم}. وروى أبو داود الطيالسي، عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في ليلة القدر: (إنها ليلة سابعة، أو تاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى) "رواه الطيالسي". وقال قتادة وابن زيد في قوله: {سلام هي} يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر، وأمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر، والشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، عن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في ليلة القدر: (ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء) "أخرجه الطيالسي"، وعن جابر بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها وهي طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، كأن فيها قمراً لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها).
فصل.
اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه الأمة؟ فقال الزهري: حدثنا مالك أنه بلغه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أُرِيَ أعمار الناس قبله أو ما شاء اللّه من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أُمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه اللّه ليلة القدر خيراً من ألف شهر "أخرجه مالك"، وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر، وقيل: إنها كانت في الأمم الماضين كما هي في امتنا، ثم هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصة لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة، وترتجى في جميع الشهور على السواء، وقد ترجم أبو داود في سننه على هذا فقال: باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان ثم روى بسنده عن عبد اللّه بن عمر قال: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: (هي في كل رمضان) "أخرجه أبو داود"، وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه اللّه رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي.
فصل.
ثم قد قيل: إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان، وقيل: إنها تقع ليلة سبع عشرة، وهو قول الشافعي، ويحكى عن الحسن البصري، ووجهوه بأنها ليلة بدر، وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشرة من شهر رمضان، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر، وهو اليوم الذي قال اللّه تعالى فيه: يوم الفرقان وقيل: ليلة تسع عشرة، يحكى عن علي وابن مسعود، وقيل: ليلة إحدى وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري قال: اعتكف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في العشر الأول من رمضان، واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتا جبريل فقال: الذي تطلب أمامك، ثم قام النبي صلى اللّه عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان، فقال: (من كان اعتكف معي فليرجع فإني رأيت ليلة القدر، وإني أنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء)، وكان سقف المسجد جريداً من النخل، وما نرى في السماء شيئاً، فجاءت قزعة، فمطرنا فصلّى بنا النبي صلى اللّه عليه وسلم، حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصديق رؤياه في صبح إحدى وعشرين) "أخرجه الشيخان". قال الشافعي: وهذا الحديث أصح الروايات، وقيل: ليلة ثلاث وعشرين، وقيل: تكون ليلة خمس وعشرين لما رواه البخاري عن عبد اللّه بن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى) "أخرجه البخاري"فسره كثيرون بليالي الاوتار، وهو أظهر وأشهر، وحمله آخرون على الأشفاع. وقيل: إنها تكون ليلة سبع وعشرين، لما رواه مسلم في صحيحه عن أُبي بن كعب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنها ليلة سبع وعشرين، قال الإمام أحمد: عن زر: سألت أُبي بن كعب قلت: أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، قال: يرحمه اللّه لقد علم أنها في شهر رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف، قلت: وكيف تعلمون ذلك؟ قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها، تطلع ذلك اليوم لاشعاع لها يعني الشمس "أخرجه أحمد ورواه مسلم بنحوه". وهو قول طائفة من السلف، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللّه، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً، وقيل: إنها تكون في ليلة تسع وعشرين، روى الإمام أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنها وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة) "أخرجه أحمد". وعن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في ليلة القدر: (إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى) "أخرجه أحمد". وقيل: إنها تكون في آخر ليلة لما تقدم من هذا الحديث آنفاً، ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة يعني التمسوا ليلة القدر) "أخرجه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح". وفي المسند من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة القدر: (إنها آخر ليلة).
فصل.
قال الشافعي في هذه الروايات: صدرت من النبي صلى اللّه عليه وسلم جواباً للسائل إذا قيل له: أنلتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية؟ يقول: (نعم)، وإنما ليلة القدر ليلة معينة لا تنتقل، وروي عن أبي قلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر؛ وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة هو الأشبه، واللّه أعلم. وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين عن عبد اللّه بن عمر أن رجالاً من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها، فليتحرها في السبع الأواخر "أخرجاه في الصحيحين"، وفيهما أيضاً عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان) "أخرجه الشيخان، واللفظ للبخاري". ويحتج الشافعي أنها لا تنتقل وأنها معينة من الشهر بما رواه البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة) "أخرجه البخاري"، وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلا ذلك العام فقط، اللهم إلا أن يقال إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط، وقوله: (فتلاحى فلان وفلان فرفعت) فيه استئناس لما يقال: إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع، كما جاء في الحديث: (إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) وقوله: (فرفعت) أي رفع علم تعينها لكم، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود، كما يقوله جهلة الشيعة، لأنه قد قال بعد هذا: (فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة)، وقوله: (وعسى أن يكون خيراً لكم) يعني عدم تعينها لكم فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها، فكان أكثر للعبادة بخلاف ما إذا علموا عينها، فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط، وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر، ولهذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه اللّه عزَّ وجلَّ، ثم اعتكف أزواجه بعده، عن ابن عمر: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان "أخرجاه في الصحيحين"، وقالت عائشة: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وشد المئزر، ولمسلم عنها: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره، وهذا معنى قولها وشد المئزر، وقيل: المراد بذلك اعتزال النساء، ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه الإمام أحمد، عن عائشة قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره، واعتزل نساءه، وقد حكي عن مالك رحمه اللّه أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء، لا يترجح منها ليلة على أُخرى، والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر رمضان أكثر، وفي العشر الأخير منه، ثم في أوتاره أكثر، والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، لما رواه الإمام أحمد عن عبد اللّه ابن بريدة أن عائشة قالت: يا رسول اللّه: إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) "أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة"